مع إثبات رؤية الهلال وإعلانها , كان ذلك هو التنبيه الإنساني العام
لفروض الرحمة والإنسانية والبر , وكأني بصوت السماء ينادي في الكون أن
أبواب الجنة فتحت , وأبواب النار أغلقت , والشياطين صفدت وغلت .
وهذا المشهد جدير بالتأمل , فإذا كان الفتح فتح الله , كان أجمل ما
يكون الفتح , وإذا كان الإغلاق إغلاق الله , كان أقوي ما يكون الإغلاق
, وإذا صفد الله الشياطين , كان التصفيد أشد ما يكون وأحكم , إن هذا
لرمضان وحده .
عرس في الأرض وعرس في السماء وعرس في قلوب التواقين إلى رحمة الله
ورضوانه ومغفرته ,عام مضى من الحرب والسجال بين الإنسان وشيطانه ونفسه
ونزواته وشهواته, عام من التعب والضيق والمشقة , حتى إذا جاء رمضان ,
قال الله للعبد استرح فقد فتحنا لك أبواب الجنة, وأغلقنا لك أبواب
النار, وصفدنا لك الشياطين , أما نفسك التي منها الشهوات , فقد أفرغنا
بطنك بالصوم لتهدأ وتطمئن وترتقي, فخذ من ذلك كله فرصتك ونصيب روحك .
من قواعد النفس البشرية أن الرحمة تنشأ عن الألم , وهذا بعض السر في
عظمة الصوم .
يضيف الصوم بعدا مختلفا في العبادات , يفرض مراقبة الله لإتمامه ,
فجميع العبادات تؤدى أمام الناس أو من خلالهم , إلا الصوم , فإنك لا
تستطيع أن تقول لأحد من الناس انظر إلى صومي أو اسمعه فأنا صائم , وإن
ذلك يربي في الناس ويعودهم على مراقبة الله في يسر وسهولة , إذ أنه
حالة سلبية يمتنع فيها العبد عن كل ما يتعلق بالبطن وأشباه البطن , وهو
السبيل الوحيد الذي يعطي بعض أسباب الصدق والإخلاص بشكل عملي ,أليست
الدعوة التي لا ترد للعبد عند فطره , بعضا من جزاءه على مراقبة الله
وإخلاصه وصبره ؟ وشفاعة الصوم له يوم القيامة , وقراءته للقرآن , وقيام
الليل , وليلة القدر التي تتفرد بعطاء خاص من الله , وباب في الجنة
يدخل منه الصائمون يقال له ( الريان ) ؟ ثم يقول الله عز وجل في الصوم
( فإنه لي وأنا أجزي به ) , ويأتي التحذير النبوي الشديد من أن من يفطر
يوما في رمضان بغير عذر شرعي , لا يكفره صوم الدهر كله , فتجد كل الناس
على اختلاف درجات إيمانهم صائمين , لا يستطيع أحدهم - وإن خلا بنفسه -
أن يأخذ شيئا من حظ البطن , وإن كانت شربة ماء .
لكأن الله يريد أن يدخل العبد الجنة في رمضان - ولو جرا - فأي معنى
أعظم من هذا ؟
والله لو عم هذا الصوم الإسلامي أهل الأرض جميعا لآل معناه أن يكون
إجماعا من الإنسانية كلها لتطهير العالم من رذائله وفساده , ومحق
الأثرة والبخل فيه , فيهبط كل رجل وامرأة إلى اعماق نفسه يبحث في معنى
الفقر ومعنى الحاجة , وليفهم في طبيعة جسمه معنى الصبر والثبات
والإرادة, ليبلغ من ذلك وبه أرقى معاني الإخاء والحرية والمساواة .
الحرية الحق , التي يخلص فيها من رق الآفات النفسية والشهوات الحسية ,
تلك الحرية التي تكفل له بعد رمضان ارتقاء في النفس وعافية في البدن
وروعة في الأخلاق , وذلك كله من أسباب فرح العبد بالعيد , وهو من أسرار
عظمة رمضان.
من هنا تأتي فداحة الاستمرار على المعاصي بعد ثلاثين يوم من هذا النظام
النفسي الاجتماعي الروحاني التطهيري العالي , فذلك الذي لم يأخذ من
رمضان إلا كما يأخذ العبيد من الامتناع عن الطعام والشهوات لفترة من
الزمن, وهو يترقب متى ينتهي رمضان ليعود إلى المعاصي , كأن الذي صفد في
رمضان هو لا الشيطان .
إن رمضان منحة الله , وهبته , وفرصته للناس, به تكتمل عطاءات الله
للعبد في الأخذ بيده إلى جنة عرضها السموات والأرض , دون أن يجهد في
ذلك جهده العام كله , فمن لم يرق في رمضان فمتى ؟! ومن لم يغفر له في
رمضان ويعد إلى الله فأنى له ذلك ؟ لا يوجد زمن أنسب ولا أخصب من رمضان
لنيل رحمة الله ورضوانه , هنا ندرك لماذا بلغنا النبي صلى الله عليه
وسلم أن الذي يدرك رمضان ولم يغفر له , رغم أنفه – أي خاب وخسر ومرغ
أنفه في التراب .
إن المهمة التي ينبغي أن ينشغل بها كل مسلم في رمضان , هي عتق رقبته من
النار, والفوز برضوان الله , وهذا جد الأمر كله , فمن انشغل بغير ذلك ,
لا يكون إلا غافل أو مجنون .
, وما أجمل وأبدع
أن تظهر الحياة في العالم كله – ولو يوما واحدا – متوضئة ساجدة , فكيف
بها على ذلك شهرا من كل سنة
؟